سورة الرعد - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل: لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية وقد كتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو: ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة، فنزلت. وقيل: سمع أبو جهل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا رحمن، فقال: إن محمداً ينهانا عن عبادة آلهة وهو يدعو إلهين فنزلت. ذكر هذا علي بن أحمد النيسابوري، وعن ابن عباس: لما قيل لكفار قريش اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن فنزلت. قال الزمخشري مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني: أرسلناك آرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات انتهى. ولم يتقدم إرسال يشار إليه بذلك، إلا إن كان يفهم من المعنى فيمكن ذلك. وقال الحسن: كإرسالنا الرسل أرسلناك، فذلك إشارة إلى إرساله الرسل. وقيل: الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك. وقال ابن عطية: والذي يظهر لي أنّ المعنى كما أجرينا العادة بأنّ الله يضل من يشاء ويهدي بالآيات المقترحة، فكذلك فعلنا في هذه الأمة أرسلناك إليهم بوحي، لا بالآيات المقترحة، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء انتهى. وقال الحوفي: الكاف للتشبيه في موضع نصب أي: كفعلنا الهداية والإضلال، والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقال أبو البقاء: كذلك التقدير الأمر كذلك. قد خلت من قبلها أمم أي: تقدمتها أمم كثيرة، والمعنى: أرسلت فيهم رسل فمثل ذلك الإرسال أرسلناك. ودل هذا المحذوف الذي يقتضيه المعنى على أنّ الإشارة بذلك إلى إرساله تعالى الرسل كما قال الحسن، ولتتلو أي: لتقرأ عليهم الكتاب المنزل عليك. وعلة الإرسال هي الإبلاغ للدين الذي أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يكفرون أي: وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أي: أرسلناك في أمة رحمة لها مني وهم يكفرون بي أي: وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن بالبليغ الرحمة. والظاهر أنّ الضمير في قوله: وهم، عائد على أمة المرسل إليهم الرسول إعادة على المعنى، إذ لو أعاد على اللفظ لكان التركيب وهي تكفر، والمعنى: أرسلناك إليهم وهم يدينون دين الكفر، فهدى الله بك من أراد هدايته. وقيل: يعود على الذين قالوا: {لولا أنزل عليه آية من ربه} وقيل: يعود على أمة وعلى أمم، والمعنى: الإخبار بأنّ الأمم السالفة أرسلت إليهم الرسل والأمة التي أرسلت إليها جميعهم جاءتهم الرسل وهم يدينون دين الكفر، فيكون في ذلك تسلية للرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أمته مثل الأمم السالفة. ونبه على الوصف الموجب لإرسال الرسول وهو الرحمة الموجبة لشكر الله على إنعامه عليهم ببعثة الرسول والإيمان به. قل: هو أي الرحمن الذي كفروا به هو ربي الواحد المتعال عن الشركاء، عليه توكلت في نصرتي عليكم، وجميع أموري، وإليه مرجعي، فيثبتني على مجاهدتكم.


القارعة: الرزية التي تقرع قلب صاحبها أي: تضربه بشدة، كالقتل، والأسر والنهب، وكشف الحريم. وقال الشاعر:
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه *** ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
أي ضربنا بقوة. وقال الزجاج القارعة في اللغة النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم.
{ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب}: قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا، واجعل لنا أرضاً قطعاً غراساً، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا، وفلاناً وفلاناً، فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله. ولما ذكر تعالى علة إرساله، وهي تلاوة ما أوحاه إليه، ذكر تعظيم هذا الموحى وأنه لو كان قرآناً تسير به الجبال عن مقارها، أو تقطع به الأرض حتى تتزايل قطعاً قطعاً، أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف. كما قال: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} الآية فجواب لو محذوف وهو ما قدرناه، وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه جائز نحو قوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب} {ولو ترى إذ وقفوا على النار} وقال الشاعر:
وجدك لو شيء أتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا
وقيل: تقديره لما آمنوا به كقوله تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا} قال الزجاج. وقال الفراء: هو متعلق بما قبله، والمعنى: وهم يكفرون بالرحمن. ولو أن قرآناً سيرت به الجبال وما بينهما اعتراض، وعلى قول الفراء: يترتب جواب لو أن يكون لما آمنوا، لأنّ قولهم وهم يكفرون بالرحمن ليس جواباً، وإنما هو دليل على الجواب. وقيل: معنى قطعت به الأرض شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً. ويترتب على أن يكون الجواب المحذوف لما آمنوا قوله: بل لله الأمر جميعاً أي: الإيمان والكفر، إنما يخلقهما الله تعالى ويريدهما. وأما على تقدير لكان هذا القرآن، فيحتاج إلى ضميمة وهو أن يقدر: لكان هذا القرآن الذي أوحينا إليك المطلوب فيه إيمانهم وما تضمنه من التكاليف، ثم قال: بل لله الأمر جميعاً أي: الإيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء. وقال الزمخشري: بل لله الأمر جميعاً على معنيين: أحدهما: بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها، إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة.
والثاني: بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان وهو قادر على الإلجاء. لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار، ويعضده قوله تعالى: أفلم يايئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله، مشيئة الإلجاء والقسر لهدى الناس جميعاً انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. واليأس القنوط في الشيء، وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم، كأنه قيل: ألم يعلم الذين آمنوا. قال القاسم بن معن هي: لغة هوازن، وقال ابن الكلبي: هي لغة من النخع وأنشدوا على ذلك لسحيم بن وثيل الرياحي وقال ابن الكلبي:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني *** ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم
وقال رباح بن عدي:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه *** وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وقال آخر:
حتى اذا يئس الرماة وارسلوا *** غضفاً دواجن قافلاً أعصامها
أي إذا علموا أنّ ليس وجد إلا لذي وارا. وأنكر الفراء أن يكون يئس بمعنى علم، وزعم أنه لم يسمع أحد من العرب يقول: يئست بمعنى علمت انتهى. وقد حفظ ذلك غيره، وهذا القاسم بن معن من ثقاة الكوفيين وأجلائهم نقل أنها لغة هوزان، وابن الكلبي نقل أنها لغة لحي من النخع، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه، لأنّ اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك. وحمل جماعة هنا اليأس على المعروف فيه في اللغة وهو: القنوط من الشيء، وتأولوا ذلك. فقال الكسائي: المعنى أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش المعاندين لله ورسوله؟ وذلك أنه لما سألوا هذه الآيات اشتاق المؤمنون إليها وأحبوا نزولها ليؤمن هؤلاء الذين علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون، فقال الذين آمنوا من إيمانهم. وقال الفراء: وقع للمؤمنين أن لو يشاء هدى الناس جميعاً فقال: أفلم ييأسوا؟ علمنا بقول آبائهم، فالعلم مضمر كما تقول في الكلام: يئست منك أن لا تفلح كأنه قال: علمته علماً قال: فيئست بمعنى علمت وإن لم يكن قد سمع، فإنه يتوجه إلى ذلك بالتأويل. وقال أبو العباس: أفلم ييأسوا بعلمهم أن لا هداية إلا بالمشيئة؟ وإيضاح هذا المعنى أن يكون: أن لو يشاء الله متعلقاً بآمنوا أي: أفلم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ولهداهم إلى الإيمان أو الجنة. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله: ولو أن قرآناً الآية على التأويل في المحذوف المقدر. قال في هذه: أفلم ييأس المؤمنون انتهى.
وهذا قول الفراء الذي ذكرناه، وقال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق أن لو يشاء الله بآمنوا على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً انتهى. وهذا قول أبي العباس، ويحتمل عندي وجه آخر غير ما ذكروه، وهو أن الكلام تام عند قوله: أفلم ييأس الذين آمنوا، إذ هو تقرير أي: قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين. وأنْ لو يشاء جواب قسم محذوف أي: وأقسموا لو شاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدل على إضمار هذا القسم وجود أنْ مع لو كقول الشاعر:
أما والله أن لو كنت حراً *** وما بالحر أنت ولا القمين
وقول الآخر:
فاقسم أن لو التقينا وأنتم *** لكان لنا يوم من الشر مظلم
وقد ذكر سيبويه أنّ أن تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم المقسم بالجملة عليها، وأما على تأويل الجمهور فإن عندهم هي المخففة من الثقيلة أي: أنه لو يشاء الله. وقرأ علي وابن عباس قال الزمخشري وجماعة من الصحابة والتابعين، وقال غيره، وعكرمة، وابن أبي مليكة، والجحدري، وعلي بن الحسين، وابنه زيد، وأبو زيد المزني، وعلي بن نديمة، وعبد الله بن يزيد: أفلم يتبين من بينت كذا إذا عرفته. وتدل هذه القراءة على أنّ معنى أفلم ييأس هنا معنى العلم، كما تظافرت النقول أنها لغة لبعض العرب. وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله: أفلم ييأس، كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة، وهذا كقراءة: {فتبينوا} و{فثبتوا} وكلتاهما في السبعة. وأما قول من قال: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس، فسوى أسنان السين فقول زنديق ملحد. وقال الزمخشري: وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام، وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهتمين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه والله فرية ما فيها مرية انتهى. وقال الفراء: لا يتلى إلا كما أنزل: أفلم ييأس انتهى.
والكفار عام في جميع الكفار، وهذا الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة قاله: الحسن، وابن السائب، أو هو ظاهر اللفظ. وقال ابن عطية: كفار قريش، والعرب لا تزال تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته. وقال مقاتل والزمخشري: كفار مكة. قال الزمخشري: تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في أنفسهم وأولادهم وأموالهم، أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شررها، وتتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم، أو القيامة انتهى.
وقال الحسن: حال الكفرة هكذا هو أبداً، ووعد الله قيام الساعة. والظاهر أنّ الضمير في تحل عائد على قارعة قاله الحسن. وقالت فرقة: التاء للخطاب، والضمير للرسول صلى الله عليه وسلم، أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك كما حلّ بالحديبية، وعزاه الطبري إلى: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وقاله عكرمة. ويكون وعد الله فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك، وقاله ابن عباس ومجاهد. وقرأ مجاهد، وابن جبير: أو يحل بالياء على الغيبة، واحتمل أن يكون عائداً على معنى القارعة راعى فيه التذكير لأنها بمعنى البلاء، أو تكون الهاء في قارعة للمبالغة، فذكر واحتمل أن يكون عائداً على الرسول صلى الله عليه وسلم أي: ويحل الرسول قريباً. وقرأ أيضاً من ديارهم على الجمع. وقال ابن عباس: القارعة العذاب من السماء. وقال عكرمة: السرايا والطلائع. وفي قوله: ولقد استهزئ الآية، تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنّ حالك حال من تقدمك من الرسل، وأنّ المستهزئين يملى لهم أي: يمهلون ثم يؤخذون. وتنبيه على أنّ حال من استهزأ بك، وإن أمهل حال أولئك في أخذهم ووعيد لهم. وفي قوله: فكيف كان عقاب استفهام معناه التعجب بما حل، وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار.


من موصولة صلتها ما بعدها، وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره: كمن ييئس، كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، كما حذف من قوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} تقديره: كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة. ودل عليه قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء، كما دل على القاسي {فويل للقاسية قلوبهم} ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف، وقد جاء مثبتاً كثيراً كقوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} {أفمن يعلم} ثم قال: {كمن هو أعمى} والظاهر أنّ قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء، استئناف إخبار عن سوء صنيعهم، وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلح للألوهية. نعى عليهم هذا الفعل القبيح، هذا والباري تعالى هو المحيط بأحوال النفوس جليها وخفيها. ونبه على بعض حالاتها وهو الكسب، ليتفكر الإنسان فيما يكسب من خير وشر، وما يترتب على الكسب في الجزاء، وعبر بقائم عن الإحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها. وقال الزمخشري: ويجوز أن يقدر ما يقع خبراً للمبتدأ، ويعطف عليه وجعلوا لله أي: وجعلوا، وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه، وجعلوا له شركاء، وهو الله الذي يستحق العبادة وحده انتهى. وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله: وجعلوا لله أي: وجعلوا له، وفيه حذف الخبر عن المقابل، وأكثر ما جاء هذا الخبر مقابلاً. وفي تفسير أبي عبد الله الرازي قال: الشديد صاحب العقد، الواو في قوله تعالى: وجعلوا واو الحال، والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود، والحال أنهم جعلوا له شركاء، ثم أقيم الظاهر وهو لله مقام المضمر تقديراً لألوهيته وتصريحاً بها، كما تقول: معطي الناس ومغنيهم موجود، ويحرم مثلي انتهى. وقال ابن عطية: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تضر ولا تنفع؟ هذا تأويل. ويظهر أنّ القول مرتبط بقوله: وجعلوا لله شركاء، كأنّ المعنى: أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك، هل ينتقم ويعاقب أم لا؟ وأبعد من ذهب إلى أنّ قوله: أفمن هو قائم المراد به الملائكة الموكلون ببني آدم، حكاه القرطبي عن الضحاك. والخبر أيضاً محذوف تقديره: كغيره من المخلوقين. وأبعد أيضاً من ذهب إلى أن قوله: وجعلوا معطوفاً على استهزئ، أي: استهزؤوا وجعلوا، ثم أمره تعالى أن يقول لهم: سموهم أي: اذكروهم بأسمائهم، والمعنى: أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى، إنما يذكر ويسمى من هو ينفع ويضرّ، وهذا مثل من يذكر لك أن شخصاً يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره: سمه حتى أبين لك زيفه وأنه ليس كما تذكر. وقريب من هذا قول من قال في قوله: قل سموهم، إنما يقال ذلك في الشيء المستحقر الذي يبلغ في الحقارة إلى أنْ لا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال له: سمه إن شئت أي: هو أخس من أن يذكر ويسمى.
ولكن إن شئت أن تضع له اسماً فافعل، فكأنه قال: سموهم بالآلهة على جهة التهديد. والمعنى: سواء سميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا يستحق أن يلفت العاقل إليها. وقيل: سموهم إذا صنعوا وأماتوا وأحيوا لتصح الشركة. وقيل: طالبوهم بالحجة على أنها آلهة. وقيل: صفوهم وانظروا هل يستحقون الإلهية؟ وقال الزمخشري: جعلتم له شركاء فسموهم له من هم، وبينوهم بأسمائهم. وقيل: هذا تهديد كما تقول لمن تهدده على شرب الخمر: سم الخمر بعد هذا. وأم في قوله: أم تنبؤونه منقطعة، وهو استفهام توبيخ. قال الزمخشري: بل أتنبؤونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم، والمراد نفي أن يكون له شركاء، ونحوه: {قل أتنبؤون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض} انتهى. فجعل الفاعل في قوله: بما لا يعلم، عائداً على الله. والعائد على بما محذوف أي: بما لا يعلمه الله. وكنا قد خرجنا تلك الآية على الفاعل في قوله: بما لا يعلم، عائد على ما، وقررنا ذلك هناك، وهو يتقرر هنا أيضاً. أي: أتنبؤون الله بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة. وذكر نفي العلم في الأرض، إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام، فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه، فانتفاؤه في السموات أحرى. وقرأ الحسن: تنبؤونه من أنبأ. وقيل: المراد تقدرون أنْ تعلموه بأمر تعلمونه أنتم وهو لا يعلمه، وخص الأرض بنفي الشريك بأنه لم يكن له شريك البتة، لأنهم ادَّعوا أنَّ لله شريكاً في الأرض لا في غيرها. والظاهر في أم في قوله: أم، بظاهر أنها منقطعة أيضاً أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة أي: أنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها، إذ أنتم لا تعلمون أنها لا تتصف بشيء من أوصاف الألوهية كقوله: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} وقال مجاهد: أم بظاهر من القول. وقال قتادة: بباطل من القول، لا باطن له في الحقيقة. ومنه قول الشاعر:
أعيرتنا ألبانها ولحومها *** وذلك عار يابن ريطة ظاهر
أي باطل. وقيل: أم متصلة، والتقدير: أم تنبئونه بظاهر من القول لا حقيقة له كقوله: {ذلك قولهم بأفواههم} ثم قال بعد هذا الحجاج على وجه التحقير لما هم عليه: بل زين للذين كفروا مكرهم. وقال الواحدي: لما ذكر الدلائل على فساد قولهم وقال: دع ذلك الدليل لأنهم لا ينتفعون به، لأنه زيّن لهم مكرهم.
وقرأ مجاهد: بل زين على البناء للفاعل مكرهم بالنصب. والجمهور: زين على النباء للمفعول مكرهم بالرفع أي: كيدهم للإسلام بشركهم، وما قصدوا بأقوالهم وأفعالهم من مناقضة الشرع. وقرأ الكوفيون: وصدّوا هنا، وفي غافر بضم الصاد مبنياً للمفعول، فالفعل متعد. وقرأ باقي السبعة: بفتحها، فاحتمل التعدّي واللزوم أي: صدوا أنفسهم أو غيرهم. وقرأ ابن وثاب: وصدوا بكسر الصاد، وهي كقراءة ردت إلينا بكسر الراء. وفي اللوامح الكسائي لابن يعمر: وصدوا بالكسر لغة، وفي الضم أجراه بحرف الجر نحو قبل، فأما في المؤمن فبالكسر لابن وثاب انتهى. وقرأ ابن أبي إسحاق: وصد بالتنوين عطفاً على مكرهم. قال الزمخشري: ومن يضلل الله، ومن يخذله يعلمه أنه لا يهتدي، فما له من هاد فما له من واحد يقدر على هدايته انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في أجسامهم، وغير ذلك مما يمتحن به الكفار. وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس، لأنه إحراق بالنار دائماً {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} ومن واق: من ساتر يحفظهم من العذاب ويحميهم، ولما ذكر ما أعد للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال: {مثل الجنة التي وعد المتقون}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7